لمن يهمه الامر.. هذا الرجل اسمه طلعت حرب . بقلم د. يسري عبد الغني

إلى رجال الأقتصاد في بلادي .... هذا الرجل اسمه طلعت حرب



لماذا من أعظم الشخصيات في تاريخ مصر ؟

يرتبط اسم طلعت حرب في تاريخ مصر باستقلال مصر الاقتصادي وتحرير اقتصادها من السيطرة الأجنبية المتوحشة  ومن هنا يضعه العديد من الكتاب والباحثين في مصاف أعظم الشخصيات في تاريخ مصر الحديث ، والأبطال الوطنيين وحتى ندرك معًا أهمية طلعت حرب الزعيم الاقتصادي الوطني الكبير ، فإن اقتصاد مصر في ذلك الوقت كان واقعًا تحت سيطرة الأجانب ، فقد كانوا يملكون مساحات كبيرة من الأراضي المصرية تصل إلى نصف الأراضي المصرية تقريبًا ، وكان متوسط ما يملكه الأجنبي من الأراضي 79 فدانًا مقابل فدانين وثلث فدان يملكها المصري ، وفي الوقت ذاته كان الأجانب يملكون معظم المشروعات الصناعية والتجارية حيث كان نصيب رؤوس الأموال الأجنبية في هذه الشركات يبلغ 61 مليونًا من الجنيهات مقابل 6 ملايين فقط يملكها المصريون ، وقد استغل الأجانب هذه السيطرة في التحكم في حياة المصريين الاقتصادية وتكبيلهم بالديون ونزع ملكية الأراضي التي يملكونها ناهيك عن سوء المعاملة ، والاستغلال الذي يفوق الحد .

انشاء اول بنك مصري وطني

وقد دفع ذلك الوطنيين المصريين إلى التفكير في إنشاء بنك مصري وطني تكون مهمته تخليص الأراضي من يد الأجانب ، ومساعدة المصريين على تمويل إنشاء الشركات التجارية والصناعية ، واستثمار أموالهم في المشروعات النافعة ، وقد جرى هذا التفكير في إنشاء بنك مصري في أثناء الثورة العرابية ولكن الفكرة ماتت بعد احتلال بريطانيا لمصر في سنة 1882 .وظلت فكرة إنشاء البنك ظلت تراود الوطنيين المصريين خصوصًا بعد أزمة ماليه حدثت في عام 1907 ، كانت من نتيجتها أن استطاعت البنوك الأجنبية نزع ملكية أراض قدرها مليون ومائة ألف فدان فيما بين سنتي 1907 و 1913 ، فتجددت الدعوة لإنشاء بنك مصري ينقذ اقتصاد البلاد من يد الأجانب على أن هذه الدعوة لم يقدر لها أن تتحقق إلا بعد أربعين سنة على ظهورها ، على يد محمد طلعت حرب .

مولد محمد طلعت حرب

كان مولد محمد طلعت حرب في 25 نوفمبر سنة 1867 ، في ناحية قصر الشوق ، التابعة لحي الجمالية بالقاهرة ، وكان والده موظفًا في مصلحة السكك الحديدية ، وبعد أن أتم تعليمه الثانوي بالمدرسة التوفيقية في القاهرة ، التحق بمدرسة الحقوق الخديوية في أغسطس 1885 ، وحصل على شهادتها ، كما حصل على مرتبة الشرف في امتحانات الترجمة ، وكانت اللغة الأجنبية التي يجيدها اللغة الفرنسية وتشرب طلعت حرب الروح الوطنية في مدرسة الحقوق الخديوية التي كانت في ذلك الوقت تشهد نشاطًا وطنيًا كبيرًا يقوم به الطلبة ، وكان من زملاء طلعت حرب في المدرسة زعماء وطنيون أصبح لهم اسم مشهور في المستقبل ، مثل : الزعيم الوطني مصطفى كامل ، والزعيم الوطني محمد فريد ، كما كان يدرس له وطنيون مرموقون مثل : مؤسس الحركة التعاونية الزراعية في مصر عمر لطفي ، والشاعر الأديب والمثقف الكبير حفني ناصف ...

طلعت حرب يترك العمل الحكومي 

وقد أتيح لطلعت حرب أن يتعرف على أساليب رأس المال الأجنبي في نهب البلاد ، بعد تخرجه في الحقوق ، عندما عمل في الدائرة السنية ، وهي أراضي الخديوي إسماعيل التي كانت مرهونة مقابل القروض التي اقترضها ، ثم تقرر بيع هذه الأراضي وفاء للديون التي كانت أصلاً للأجانب وكان منصب طلعت حرب وقتها مديرًا لمكتب تسوية المنازعات . وفي عام 1905 ، ترك طلعت حرب العمل الحكومي ، وعين مديرًا لشركة مهمة من شركات استصلاح الأراضي ، هي شركة كوم أمبو ، وكان اختيار طلعت حرب لإدارة هذه الشركة دليلاً على ما تمتع به وقتذاك من مهارة وصلات مع رجال المال والأعمال في مصر ، وكان رجال المال في ذلك الوقت معظمهم من اليهود المصريين ، الذين كانوا يلعبون دورًا مهمًا في الاقتصاد المصري ، وقد عين أحدهم فيما بعد وزيرًا للمالية المصرية ، وهو يوسف قطاوي باشا . وفي عام 1908 انتقل طلعت حرب من شركة كوم امبو ، ليصبح مديرًا للشركة العقارية المصرية ، والتي كان مجالها أوسع بكثير ، ففي حين كانت عمليات شركة كوم امبو تجري أساسًا في مديرية (محافظة) قنا بمصر العليا (صعيد مصر) ، فإن مجال عمليات الشركة العقارية المصرية ، كان يشمل الدلتا المصرية كلها ، وقد سمحت ملكيات الشركة الواسعة في مديرية (محافظة) الغربية لطلعت حرب بالتعرف على كثير من عائلات الأعيان البارزة ....

نقطة التحول 

وقد كان عمل طلعت حرب في الشركة العقارية المصرية نقطة تحول في حياته ، فبالإضافة إلى أنه تدرب على الأعمال المالية على يد خبراء مهرة ، فقد أتيح له الاطلاع على هذا المنجم من الذهب المسمى بميدان المال ، والذي كان يغرف منه الأجانب ، وفي الوقت نفسه أدرك أن استقلال مصر السياسي الذي يحارب من أجله أبناء مصر ، لن يكون له قيمة إذا لم يستند إلى استقلال اقتصادي قوي ، وإذا لم يسيطر المصريون على اقتصادهم . وقد أتيح لطلعت حرب في تلك الأثناء أن يعمل كوكيل لعدد من ملاك الأراضي المصريين البارزين ، ومن هؤلاء : فؤاد سليم الحجازي ابن لطيف سليم الحجازي ، الذي كان من الشخصيات الوطنية العامة ، وأحمد بليغ باشا الناظر السابق للدائرة السنية ، والأهم عمر سلطان باشا أبرز أعضاء عائلة سلطان ذات النفوذ الواسع في مديرية (محافظة) المنيا بصعيد مصر ، بما أفاده في إقامة علاقات مع عدد أكثر من أقوى العائلات ، وهي العلاقات التي أفادتهم فيما بعد في تأسيس بنك مصر ، أول بنك وطني تعرفه بلادنا .

دخوله الحياة السياسية

وفي هذه الفترة من حياة طلعت حرب انخرط في الحياة السياسية ، وكان على صلة بالحزب الوطني ، وكتب الزعيم الوطني الشاب مصطفى كامل مقالاً في صحيفة (أللواء) ، هنأ فيه طلعت حرب لكونه أول مصري يعين مديرًا لاثتنين من أهم الشركات في مصر ، وهما شركة وادي كوم أمبو والشركة العقارية ، على أنه عندما ألف أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد حزب الأمة في عام 1907 انضم إلى هذا الحزب وظهر اسم طلعت حرب بين الأعضاء المؤسسين لصحيفة الجريدة ، وهي لسان حال حزب الأمة ، وكتب عدة مقالات فيها في سنوات 1907 و 1908 و 1910 .

موقفه من مشروع مد امتياز قناة السويس 

أقول لكم : لقد وقف طلعت حرب موقفًا وطنيًا كأي وطني غيور على بلاده ، من مسألة مد امتياز شركة قناة السويس في عام 1910 ، عندما سعت الشركة الأجنبية لمد امتيازها أربعين عامًا لينتهي عام 2008 بدلاً من عام 1968 ، وأثار هذا الطلب سخطًا ومشاعر حادة بين الوطنيين المصريين ، وقد شكلت الجمعية العمومية ، وهي المجلس النيابي الثاني إلى جانب مجلس شورى القوانين ، لجنة خاصة لدراسة المقترحات ، وكلفت اللجنة الوطنية طلعت حرب بإعداد تقرير ، وقد حدد طلعت حرب في هذا التقرير الخسائر المالية التي ستتعرض لها مصر لمد الامتياز ، الأمر الذي أتاح للمعارضين حجة قوية لرفض مد الامتياز ، وفي نفس العام أصدر طلعت حرب كتابًا بعنوان : (قناة السويس) ، أوضح فيه رأيه في مشروع مد الامتياز ، قال فيه بالحرف الواحد " نرى المشروع من كل وجهة قلبناه عليها مشروعًا ضارًا لا تصح الموافقة عليه "ويقال أن الرئيس الراحل / جمال عبد الناصر اطلع على هذا الكتاب ، ضمن الكتب والدراسات التي اطلع عليها قبل اتخاذه قرار تأميم قناة السويس سنة 1956 ....

ضرورة انشاء بنك للمصريين

وفي عام 1911 ، كانت فكرة إنشاء بنك مصر قد أصبحت مطلبًا للوطنيين المصريين في أرجاء مصر ، ولذلك عندما انعقد المؤتمر المصري الأول في شهر أبريل 1911 ، اقترحت لجنته وجوب إنشاء بنك مصر برؤوس أموال مصرية خالصة ، وقد رأى طلعت حرب زيادة الشرح في اقتراح اللجنة ، فوضع في سنة 1913 كتابه المشهور (علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين) ، أو كما سماه البعض (بنك الأمة) ، وفي هذا الكتاب أحاط فيه بحالة مصر الاقتصادية منذ عهد الخديوي إسماعيل ، واستعرض المحاولات التي بذلت في سبيل إنشاء بنك مصري يضطلع بمهمة إقراض المصريين والتعامل معهم ، وبين بالأرقام والوقائع الحاجة الماسة لإنشاء هذا البنك والوطني .
وفي ذلك الحين كان الواقع الاقتصادي لمصر يدفع الكثيرين من كبار ملاك الأرض جديًا للتفكير في هذا البنك الوطني ، فقد كانت رقعة الأراضي الزراعية محدودة ، وكانت أسعارها تتزايد باستمرار ، في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار المحاصيل الزراعية بسبب سيطرة الأجانب ، ولم يعد استثمار المال في شراء الأراضي يحقق الربح المنشود ، وقد نبه طلعت حرب إلى هذه الحقيقة أكثر من مرة في كتاباته العديدة ، التي أتمنى أن نعيد طباعتها أو نشرها وقراءتها قراءة واعية فاحصة ، لعلنا نستفيد منها في واقعنا الحاضر ، وبالطبع أثناء الاضطلاع على هذه الكتابات لا ننسي اختلاف الظروف والأخوال ، ولكن الثوابت باقية .. ويقول طلعت حرب : لقد دخل في يد كثير من أهل مصر أموالاً كثيرة في السنوات الأخيرة ، ففيم استعملوها ؟ ، استعملوا معظمها في نوع الاستثمار الذي ألفوه ، وهو شراء الأراضي الزراعية ، وتهافتوا عليها حتى أغلوا ثمنها ، هذا حسن ، ولكن إذا نظرنا إلى مجموع الأمة المصرية ، هل نجد إيرادها قد زاد بانتقال الفدان من يد لأخرى ؟ ، وهو هو بعينه يعطي إيراده مهما ارتفع ثمنه ، إن تلك الأموال التي دخلت في يد المصري واستعملها في شراء الطين (الأراضي الزراعية) ذهب معظمها هباء في زيادة ثمن الأراضي بتهافته على شرائها ، وعدم تنويعه طرق استثمار ماله .

تحولات ما بعد الحرب العالمية الاولي 

ونواصل حديثنا فنقول :إن الحرب العالمية الأولى كانت هي الفرصة الحقيقية لطبقة أصحاب المال والأعمال لتذوق الربح الذي كان وقفًا على الأجانب ، فقبل الحرب كانت مصر سوقًا دوليًا تتنافس فيها الأمم الصناعية الكبرى ، حتى انخفضت فيه أسعار السلع الأجنبية إلى حد لم يدع أملاً في نشوء صناعات وطنية تستطيع منافستها ، ولكن قيام الحرب أدى إلى اهتمام الدول الصناعية الكبرى بخدمة المجهود الحربي على حساب المنتجات الصناعية ، كما انسحبت كثير من رؤوس الأموال الأجنبية من مصر ، وقد أفاد أصحاب رؤوس الأموال المصريين من هذه الظروف حيث قاموا بإنشاء بعض المشاريع الصناعية من جهة ، وزيادة رأس أموالهم في البنوك من جهة أخرى ، ومن هنا أدرك كثير من المصريين الوطنيين ، ومنهم طلعت حرب ضرورة تطوير صناعة محلية ، وتمثل اهتمامهم في إنشاء الحكومة المصرية لجنة التجارة والصناعة في سنة 1916 ، من كبار الرأسماليين المصريين ، وعلى رأسهم : طلعت حرب ، وإسماعيل صدقي ، وأمين يحيى ، ويوسف قطاوي ، لدراسة الأسس التي تقوم عليها الصناعة المصرية الوطنية .
وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى ، وقامت ثورة 1919 الشعبية ، التي اشتركت فيها جميع طبقات الشعب ، من أجل الاستقلال ، والتي كانت لها قادة ، وأفكار من نخبة واعية مثقفة تحركها ، و أهداف واضحة مفهومة ، أي أنها لم تكن هوجة أو مؤامرة وضيعة يقوم بها بعض المأجورين الذين لا هدف لهم إلا جلب المال من أعداء الوطن الذين يريدون له الخراب ....

الحلم يصبح الي حقيقة 

لقد شعر طلعت حرب أن هذه الروح الوطنية المتأججة في قلب الشعب المصري هي الفرصة المناسبة لتحويل حلم إنشاء بنك وطني مصري إلى حقيقة واقعة ، بنك تساهم فيه كل الأمة ، ويستفيد منه كل فرد على أرض مصر ، ولذلك هب يحفز الهمم ، ويضرب على الوتر الحساس في كل طبقة لكي يحشدها وراءه .
ونقلب في الدوريات القديمة لنجد خطابه الذي ألقاه يوم 7 من مايو سنة 1920 ، الذي يوجهه للشعب المصري بمختلف فئاته وطبقاته ، وبالذات الشباب الناهض ، حيث يقول : في البلاد شباب ناهض يريد عملاً فلا يجده ! ، بل يريد أن يتمرن على عمل ، فلا يجد بابًا يطرقه ، تأسست في مصر مدارس للتجارة عليا ومتوسطة وليلية (أيام كان لدينا مدارس ليلية يستكمل خلالها كل من فاته قطار التعليم تعليمه إلى آخر مراحله) ، فماذا كان نصيب متخرجيها ؟ ، هل شغلت البنوك أو الشركات أحدًا منهم ؟ ، اللهم لا ، إلا النادر الذي لا حكم له ، بينما نجد الباقين يشتغلون في الغالب كتبة في المصالح الحكومية ، وما كان هذا الغرض من تأسيس هذه المدارس ! ثم خاطب طلعت حرب التجار المصريين ، الذين كانوا يعانون من منافسة العناصر الأجنبية لهم وسيطرتها على الأسواق بسبب جهلهم بالأساليب الحديثة للتجارة ، فوعدهم بأن البنك سيعمل بالاتحاد مع حضرات التجار على تنظيم الحالة التجارية ، وإنشاء الغرف التجارية ، والنقابات ، والشركات التعاونية وغيرها ، للدفاع عن مصالح أعضائهم ، ودرس أنجح الطرق لترقية شئونهم ، وزيادة أرباحهم ، بتحسين طرق البيع والشراء ، وترتيب الأعمال وتنظيم الحسابات .

بنك مصر وظهور النقابات العمالية 

كما توجه طلعت حرب أيضًا إلى ملاك الأراضي ، وأصحاب المصانع ، فوعد بأنه سوف يعمل معهم على تأسيس النقابات ، وشركات التعاون اللازمة لهم ، وللدفاع عن مصالحهم ومحاصيلهم ومصنوعاتهم ، مؤكدًا على أن البنك ملك للجميع ، ملك لكل مصري ، وأن الذي سيقوم بأموره وإدارته من المصريين ، والكل يعمل من أجل هدف واحد هو ترقية الشئون المصرية ، وتنظيم الحركة الاقتصادية بالبلاد .وأخيرًا تمكن الاقتصادي الوطني / طلعت حرب من تأسيس بنك مصر بمرسوم سلطاني صدر في 3 من أبريل 1920 ، وكانت مجموعة المؤسسين تتكون من ثمانية من العاملين في مجال المال والأعمال ، وهم : أحمد مدحت يكن باشا ، و يوسف قطاوي باشا ، وعبد العظيم المصري بك ، وعبد الحميد السيوفي بك ، والدكتور فؤاد سلطان ، واسكندر مسيحه ، وعباس بسيوني الخطيب ، وبالطبع كان على رأسهم طلعت حرب ....

مصرية التأسيس والمساهمين

وقد اشترط أن تكون الأسهم اسمية ، ويكون بقاؤها بيد مصرية ، حتى لا يشترك الأجانب أو أي فرد غير مصري في التأسيس ، وحتى لا يكون الاشتراك في التأسيس بغرض المضاربة بالأسهم في سوق الأوراق المالية بالبيع والشراء ، وقد حث طلعت حرب المساهمين المصريين ، على عدم المضاربة قائلاً : إن المساهم لم يساهم في البنك ، على ما نعتقد ، ليضارب بأسهمه ، بل نذهب لأكثر من ذلك : ماذا يضير الأمة التي تعودت على الموقف ، لوقف بعض بنيها جزء من مالهم على استقلال بلادهم الاقتصادي ، واعتبروا الأسهم من أول يوم وقفًا لا بيع فيها ولا شراء ؟ ..
هذا وقد ترتب على جهود طلعت حرب في هذا الصدد أن تعزز مركز بنك مصر بما أخذ يتلقاه من المصريين في كل مكان على أرض مصر ، فعندما تأسس البنك كان راسماله 80 ألف جنيه في سنة 1920 ، فارتفع رأس المال إلى نصف مليون جنيه في 26 يناير سنة 1925 ، ثم بلغ في ديسمبر سنة 1937 ، مليونًا كاملاً ، وارتفع عدد المساهمين من ثمانية في سنة 1920 ، إلى 9356 مساهمًا في 30 ديسمبر سنة 1934 ، وأما الودائع فقد ارتفعت من مائتي ألف جنيه في سنة التأسيس لتصبح 45 مليون جنيه في نهاية عام 1947 ....

ظهور الصناعة المصرية 

إن هذا النجاح الكبير دفع طلعت حرب إلى النزول في ميدان تكوين أو تأسيس الشركات الصناعية والتجارية ، الأمر الذي جعله يجمع بين صفة الرأسمالية المالية، وصفة الرأسمالية الصناعية والتجارية ، وهذا التحول يعتبر الميلاد الحقيقي أو الصحيح للرأسمالية الصناعية المصرية ، فحتى ذلك الحين لم تكن الصناعة الحديثة معروفة للمصريين ، كما أنه لم تكن هناك هيئات خاصة تعمل على تمويل الصناعات الكبيرة ، وإنما كانت الصناعة المصرية في ذلك الحين مقصورة على المشروعات الفردية المحدودة التي تتبع نظم الإنتاج الفنية العتيقة ، ولكن ذلك كله تغير بعد اتجاه طلعت حرب إلى تكوين الشركات الصناعية والتجارية الحديثة . ففي المدة من عام 1922 إلى 1928 ، أي في نحو ست سنوات فقط أنشأ طلعت حرب عشر شركات تجارية صناعية كبرى ، اتبعت في تنظيمها وإدارتها وتشغيلها أحدث النظم العلمية ، وغطت الميادين التالية : شركة مصر للطباعة 1912 ، شركة مصر لحلج الأقطان سنة 1924 ، شركة مصر للنقل والملاحة النهرية سنة 1925 ، شركة مصر للسينما سنة 1925 ، شركة مصر لغزل ونسيج القطن سنة 1927 ، شركة مصر لمصايد الأسماك سنة 1927 ، شركة مصر للكتان سنة 1927 .
وقد أدى ظهور هذا الاتجاه الصناعي إلى تأسيس اتحاد الصناعات المصري في عام 1922 ، لتأييد الصناعة المصرية والدفاع عن مصالحها ، وتذكر كتب تاريخ الاقتصاد المصري أنه في ذلك الحين لم تكن مصر قد عدلت نظامها الجمركي على نحو يكفل حماية صناعاتها ، لسبب بسيط هو أنه لم تكن هناك صناعات مصرية تستحق الحماية الجمركية ، ولكن بعد إنشاء شركات بنك مصر الصناعية أصبحت الضرورة تقتضي حمايتها من منافسة الصناعات الأجنبية المثيلة ، عن طريق فرض رسوم جمركية عليها تكون عالية بحيث تكون المنتجات المصرية أرخص منها ، ويقبل المستهلكون على شرائها بما يدعم الاقتصاد الوطني ...

استمرار النضال وثماره 

في الوقت نفسه فإن النضال الوطني لم يلبث أن أدى إلى إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر سنة 1937 ، وأصبح في وسع الحكومة المصرية فرض الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية في مصر الذين يشتغلون في الصناعة والتجارة على أن قيام الحرب العالمية الثانية كان له أثرًا سلبيًا كبيرًا على بنك مصر ، إذ أقبل الكثيرون وتحت تأثير الخوف من ظروف الحرب ، ونتيجة الشائعات المغرضة التي روجها من لا ضمير لهم ولا وطنية ولا انتماء ولا ولاء ، ونتيجة لمؤامرات الحاقدين الذين كانوا يتمنون أن يعود الاقتصاد القومي المصري إلى الوراء مئات الخطوات كي يتسع لهم الميدان للسلب والنهب والاستغلال ومص دماء الشعب المسكين ، نتيجة كل ذلك سحب العديد من الناس ودائعهم من بنك مصر ، وهي الودائع التي استخدم جزء منها في تمويل بعض المشروعات ، ولم يكن لدى بنك مصر سيولة نقدية كافية لمواجهة هذا الظرف الطارئ .

نهاية المحنة 

اتجه طلعت حرب مضطرًا إلى الاقتراض من البنك الأهلي المصري ، وطلب إلى الحكومة المصرية مساعدته في الضغط على البنك الأهلي ليقبل بإعطائه القرض ، وقد قبلت الحكومة المصرية بشرط استقالة طلعت حرب من إدارة بنك مصر ، ولم يتردد الفارس النبيل في كتابة استقالته ، إنقاذًا للبنك وشركاته . وقد أثرت هذه الأزمة على صحة الزعيم الوطني النبيل الشريف الاقتصادي الكبير / محمد طلعت حرب أول من مصر الاقتصاد المصري ، وأنشأ بنكًا وطنيًا قوميًا ، فلم يلبث طويلاً حتى فاضت روحه إلى باريها ، في 21 من أغسطس سنة 1941 ، ولكن بعد أن أرسى دعائم الاستقلال الاقتصادي المصري ... رحم الله طلعت حرب جزاءً وفاقًا لما قدم من جهود رائعة للرقي والنهوض بمصر ..



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ممثـلة .. قصة قصيرة ..بقلم الكاتب والشاعر طارق فريد

مراحل خلق الانسان في القرآن الكريم .. بقلم دكتورة جمانة قباني إخصائية أمراض النساء والتوليد

إلى الذين يتحدثون عن أزمة المسرح . بقلم د يسري عبد الغني